الجمعة، 13 مايو 2011

الحطاب



ظن الحطاب بأنه فر من الجحيم وجلس في العراء يستنشق الغبار الناتج عن كوخه المحترق بعدما آلت كل محاولاته للسيطرة على الحريق بالفشل , فتلون وجه بلون الغبار حتى هاجمته عاصفة من السعال , وأنسالت دموعه على الأرض الطينية الرطبة .

لقد عمل حطاباً كأبيه , فكان يخرج كل صباح قبل طلوع الشمس حتى المغيب لجمع الحطب , وكان يقوم بهذا العمل الشاق في كل يوم من أيام حياته الرتيبة القاسية التى تكررت أيامها فكانت نسخة طبق الأصل من الأيام التى سبقت ولكنه كان يأمل بأن يكون لله خطط آخرى.

أعتاد الحطاب الذهاب إلى السوق في يوم الجمعة من كل أسبوع وقد حمل بغلته بحمل الأسبوع الماضى من الحطب , ثم يبيعه بثمن زهيد ويقبض على الدراهم القليلة بكلتا يديه فتعلو وجه أبتسامة عريضة يملأها الرضا .

وبينما هو جالس يتحسرعلى إحتراق الكوخ وضياع كل ما يملكه من حطام الدنيا , تذكر واقعة حدثت منذ أن كان صغيراً ورمى إليها بأصابع الإتهام لما وصل إليه الوضع الآن, فعندما كان غلاماً صغيراً أبصر معاناة والده العجوز في حمل الحطب الثقيل , وأشفق على ظهره المشوه المنحني , فشرع على أختراع عربة تدفع باليد حتى تيسر على أبيه عملية نقل الحطب , فعمل في الخفاء كل ليلة لمدة شهر كامل حتى جاء اليوم المنشود وصنع العربة .


وفي صباح يوم مشئوم بعد ليلة شاقة قد هاجمه فيها الأرق , عندما حانت لحظة خروج أبيه من الكوخ توقف أبوه لوهلة ثم سأله عن هذا الشئ الخشبي الكئيب الشبيه بتابوت متحرك , فأقبل أبنه موضحاً بأنه صنع له عربة خشبية لتعينه على نقل الحطب , فأبتسم أبوه قائلاُ :

" يابنى لو أراد الله لنا أن ننقل الحطب بالعربات , لجعل لنا عجلات بدلاً من الأرجل" وقام بحرق هذه العربة بعدما علم بأن لله خطط آخرى .  


و مرت السنوات ببطء كحيوان مجروح يزحف في ألم , ومات أبوه عندما بلغ أشده وصار شاب قوي البنية كالصخرة , وأرتسمت على وجه علامات البأس , و قضى اليوم تلو الأخر يجمع الحطب في شجاعة اليأس , وكان يملى النفس دائماً بيوم الذهاب إلى السوق والتفكير بما سيفعله بهذه الدراهم القليلة .


وذات يوم تراءت له ذات الفكرة التى جالت بخاطره وهو صغير , وقرر أن يعاود صنع تلك العربة من جديد لتخفف عليه مشقة حمل الحطب , فشرع يجمع الحطب في الصباح , و يعمل في صنع العربة في المساء .


 وفي ليلة مظلمة قد قرر القمر فيها الأختباء ,  تأخر الحطاب كثيراً في العمل حتى بلغ الليل منتصفه , وأستيقظت الرياح في تلك الليلة حتى كادت تعصف بالكوخ العتيق , فأغلق جميع النوافذ وأستعان بضوء الشمعة الشاحب كى يواصل عمله , ولكن لعب القدر لعبته القديمة فأمر الرياح بإختراق النافذة , و سقطت الشمعة بعيداً حتى بدأت النيران بالأنتشار السريع و بات من المستحيل السيطرة عليها .



تفحم الكوخ تماماً , وأشفقت السماء على الحطاب المسكين فهطلت أمطار غزيرة حتى توقفت في صباح اليوم التالى , وفي تلك الأثناء قرر الحطاب محاربة الهواجس التى أصابت عقله بالسؤال المحرم " لماذا ؟"  ...  لماذا أختاره القدر تحديداً وهو الشخص التعس الذى يملك بالكاد قوت يومه  ؟

أستطاع الحطاب الإنتصار على الجزع , وتحرك أخيراً من جلسته الساكنة وشرع يبحث وسط الحطام عن فأسه الحديدية الصدأة بعد أن قرر بأن يبدأ من جديد بعد أن طمأنته السكينة بأن لله خطط آخرى.

وفي أثناء بحثه أسفل أنقاض الكوخ وجد صندوق حديدي مطعم بنقوش غريبة مدفون أسفل آحدى الأرضيات المحطمة بفعل الحريق , ففتح الصندوق وهو في حالة من الذهول بعد أن كذب عيناه مراراً لما أبصر ... فقد ملأ الصندوق بالعملات الذهبية وأحتوى أيضاً على مختلف أنواع الجواهر والنفائس , ولم يكن صندوقاً واحداً فقد وجد العديد , مما جعله يشرع في بناء عربة آخرى حتى يستطيع نقل هذه الكنوز ... وعندها أيقن بأن لله خطط آخرى .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق