الثلاثاء، 27 نوفمبر 2012

القعيد


لم يكن يتذكر تماماً ما سر المرض الذي أصابه وهو فى الخامسة من العمر لأنه حين ذاك لم يكن يشكو من أية آلام أو حتى أعراض , ولكنه فوجئ ذات يوم وهو في المدرسة بمجموعة من المعلمين الذين ألتفوا من حوله و أجبروه على أن يجلس على كرسى متحرك ذو عجلات متآكلة , فأخبروه بأنه مريض و أن عليه الإستجابة للعلاج , ومن منذ ذلك اليوم لم يفارق ذلك الكرسي , فلم يكن ليتحرك بدونه .

ومرت سنوات عديدة لا يتذكرها تحديداً , ولكنه كان موقن بأنه لم يعش بما يكفى أو أنه لم ينل حياة على الإطلاق , فبدأ شعره يتحول ببطء إلى اللون الأبيض , وبدأ ذلك الكرسي المتحرك بالتهاوى تدريجياً .

 وذات صباح عندما قرر عبور الطريق إلى الجانب الآخر ليتوجه للعمل فوجئ بشحاذ مشرد يبتسم له في ثقة فكان مظهره أقرب إلى مجنون شارد أو بروفيسور متمرس ذو عينين لامعتين يشق منهما بريق شديد ينم عن ذكاء خارق قد أودى بصاحبه إلى التهلكة , فأقبل منادياً :

" أيها القعيد ... هل أنت تائه ..؟"

أنفعل القعيد من وقاحة ذلك المتوسل , فلم يكن وقع كلمة قعيد يبعث عليه السرور , ولكنه حاول الإنطلاق مسرعاً ليتفادى ذلك الأخرق ولكن أستوقفته كلمات المتسول :

" هل تعلم الخديعة الكبرى ... كلنا تائهون ... فقد أخبرونا بأننا نسبح ...ّ"

- فأقبل القعيد قائلاً : " وماذا تظن نحن فاعلون .. ؟ !"

- أجاب المتسول بثبات مجرم محكوم عليه بالموت شنقاً : " نحن نطفوا ..." .  
وأقبل المتسول مردفاً : " منذ متى وأنت في ذلك القفص الحديدي ..؟

- تسائل القعيد : " عن ما تسأل أيها الأخ ...؟

- المتسول : " عن الكرسي "

- أستسلم القعيد قائلاً :" أنه منذ الأيام الأولى التى وطأت قدماى المدرسة عندما كنت طفلاً صغيراً" .

- تحولت نبرات المتسول إلى الجدية , فأردف قائلاً : " أعرني أنتباهك أيها الرفيق ... أن قدميك تستطيع الوقوف ... بل تستطيع المشي وقد تتمكن من الركض لاحقاً ... ولكن عليك فقط بأن تعطيها الإشارة "


وعندها أستيقظ القعيد من سبات مظلم عندما سمع صوت المنبه المزعج الشبيه بصفير آلة تتعذب , وتذكر بأن عليه الإسراع بالذهاب إلى العمل كى لا يخصم منه أجر يوماً ككل مرة يصل متأخراً , و أن عليه أن يصلح كرسيه المتحرك الذى عفا عليه الزمن كى يتمكن من الصمود , وتمني أن تفارقه تلك الكوابيس المريبة التى تطارده منذ فترة والتي تسببت كثيراً في إزعاجه و إرباك أفكاره ...



الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

المجازر الحكومية الآلية ترحب بكم


الحكومة :

أصبحت الحكومة الائتلافية الجديدة على مشارف أزمة متفاقمة , فبعد عدة ثورات متتالية لم تسفر عن أي تغيير سوي تغيير بعض الوجوه القديمة كي لا يشعر المواطن بالضجر , كانت الحكومة تحاول جاهدة لإيجاد حلول غير تقليدية لأزمة الغذاء وخاصة أزمة اللحوم التى تصاعدت أسعارها إلى أضعاف مما أثار حالة من السخط لدى المواطنين الأبرياء الذين تظاهر منهم الكثير وقرروا الإعتصام حتى إيجاد حلول سريعة .

خطرت للحكومة فكرة سحرية عندما قررت تشكيل لجنة من كبار العلماء وأعيان المجتمع الذين قرروا بإجازة إدخال لحوم الحمير إلى قائمة طعام المواطن لسد العجز , بعد أن تأكدوا من أن تلك اللحوم لا تسبب أي تلف عقلي لدي تناولها من قبل المواطنين الشرفاء .

ونظراً لجودة الحمير التى تمتلكها البلاد ونظراً لتوفرهم بكثرة , أخذت المجازر الآلية الحكومية تعمل من جديد بكامل طاقتها لإستيعاب الأعداد الوفيرة .


المواطن :

كان المواطن أيمن زهدي مواطناً مثالياً , فكان يقرأ الصحف القومية بإنتظام دائم لمدة تزيد عن الخمسة عشرعاماً , وكان يملك سجلاً مشهوداً بإنه لم يقدم على شراء أياً من صحف المعارضة ولو مرة في حياته .

قضي أيمن زهدي معظم وقته في ممارسة رياضة المشي بجوار الحائط , حتى أصبحت هوايته المفضلة بجانب مشاهدته للقنوات التليفزيونية الحكومية .

ذات يوم أستيقظ أيمن زهدي على صوت طرقات متتالية فأقبل على باب مسكنه وعندها فوجئ بقوة من أفراد الشرطة تهنئه بفوزه بجائزة المواطن المثالي , وأن عليه الحضور لحفل التكريم الضخم الذي نظمته الدولة ... وأن الحضور إجباري .

أرتدى أيمن زهدي سترته المفضلة ونفض الغبار عن حذائه بسفنجة ميتة , وأنطلق يتبع أفراد الشرطة وهو يشعر بالفخر , فأصطحبوه إلى مقر الإحتفالية الكبرى الذي كان في مكان نائي بعض الشيئ .

 فوجئ أيمن زهدي بالأعداد الغفيرة , وأكتشف أن الخير لم يمت في تلك البلاد لأنها ملأى بالمواطنين الصالحين أمثاله .

تقدم أيمن زهدي ببطء في صفه الذي كان يتحرك كثعبان مصاب بالجزام , ولم يكن هو الصف الوحيد فكانت هناك عشرات الصفوف المكونة من مجموعات أخرى من المواطنين الشرفاء .

تمكن أخيراً أيمن زهدي من الوصول إلى باب الدخول , ولكن أصابته حيرة بالغة عندما رفعه ناظريه إلى أعلى ليرى لافتة سوداء ضخمة ملطخة بدهان أبيض باهت اللون رسمت عليها  " المجازر الحكومية الآلية ترحب بكم ... " .




الاثنين، 24 سبتمبر 2012

بعد تحطم الآلة


بعدما تحطمت الآلة , وظن الجميع أن نهاية العالم قد أوشكت , خرج الأب مع أبنه الصغير يتفقدون الحطام وكانوا من الناجين القلائل من تلك الأحداث المأساوية الهائلة , فسأل الصغير أباه في تحفز :  "أبي ... أريد أن أرى البحر "
فأجابه الأب بإبتسامة باهتة : " لم تعد هناك بحار في تلك الأنحاء ... لقد جفت جميعاً  ".

فعبس وجهه الطفل ولاحظ الأب الحزن الشديد البادى على أبنه الصغير وأقبل الأب يحدثه محاولاً أن يبعث عليه بعض السرور: " في الماضي كانت هناك سماء زرقاء , وشمس ذهبية و أراضي تكسوها اللون الأخضر " , فقاطعه الطفل متعجباً في دهشة :" ما هو اللون الأخضر ... ! ؟ "

أرتسمت علامات الحيرة على وجه الأب , فأردف قائلاً : " أنه لون الأشجار التى كانت موجودة في وقت مضى قبل تدمير الكوكب".

 فباغته الطفل :" ما سبب تدمير الكوكب ... ؟"

شخص الأب بناظريه إلى الأفق الأعلى , وأقبل موضحاً :

" لقد تم إحتلال الكوكب من قبل كائنات مريعة تتغذي على أحلام بنو البشر بعد أن ظن الإنسان لقرون عديدة أنه على قمة السلسلة الغذائية وأنه سيد هذه الأرض , لكنه لم يكن يدرك الحقيقة , فكانت هناك كائنات آخرى تتغذى عليه في صمت وتلتهم روحه في نهم .

 لقد تمكنت تلك الكائنات من السيطرة علينا تماماً , فتركوا لنا أنماط لنتبعها وأوهام لنؤمن بها , فهم الذين أخبروننا كيف نلبس , نأكل , نتعلم ... ببساطة لقد أخبرونا كيف نعيش , ومن كان يخالف تلك الأنماط كان المجتمع يتهمه بالجنون أو الهرطقة ويصبح منبوذاً مذموماً , فتحولنا إلى عبيد للمادة حتى بدأ الخواء يسرى في عروقنا بدلاً من الدماء .

 وهم أيضاً الذين أخترعوا تلك المصطلحات الباهتة التى كان هدفها الأول تقسيم البشر , فهم الذين أبتكروا النظام العالمي الجديد , السياسات الخارجية , والأنظمة المالية وهم الذين قسموا الكوكب إلى بلدان وحدود ورفعوا فوق كل منطقة قطعة قماش ميتة على عمود صدأ , حتى أنتهى بنا المطاف إلى ما نحن عليه الآن .

ولكن الأمر المثير للسخرية هو قبل تدمير الكوكب كان الإنسان شديد الفخر بإكتشافه كل شبر على وجه البسيطة وإنطلاقه إلى الفضاء لإكتشاف كواكب آخرى ... , لكنه لم يقدم قط على إكتشاف أكثر الأماكن غموضاً ... فلم يقدم قط على إكتشاف نفسه .

أعلم أن كل الموراد التى كنا نستهلكها في وقت مضى قد نفذت , وأن كل الأدوات التى كنا نستخدمها قد تحطمت , ولكن الآداة الأكثر قوة والأكثر تأثيراً لا تزال موجودة , ولكن عليك فقط أن تزيح عنها بعض الأتربة .... فالأداة الأقوى منذ أن خلق الله هذا الكون هى القدرة على التخيل ... ".

بعدما فرغ الأب من حديثه , أقبل الطفل إليه مسرعاً في فرح عندما وجد قوقعة مدفونة تحت الرمال فوضعها عند أذنيه قائلاً : "أبي ... لقد وجدت البحر محبوساً في تلك القوقعة "... وأنطلق يحتفل بإكتشافه الجديد .





الأربعاء، 19 سبتمبر 2012

رسالة الإستغاثة الأولى بعدما توقفت الآلة عن العمل


لقد أصبحنا عالقين في معدة تلك الآلة الكريهة التى بدأت تنزف حتى الموت دماً أسود اللون نافذ الرائحة , ولم يتبقى لنا طعام بعد أن فسد معظمه بعد تخزينه لسنين طويلة دون دافع أساسي سوى هزيمة شبح الجوع هزيمة ساحقة , ولكن سرعان ما تبدلت الأمور فأنتهى بنا المطاف بأن الأشياء التى كنا نمتلكها في وقت مضى , باتت تمتلكنا بالكامل وصارت تلتهم أرواحنا في نهم .
وزاد الأمر بلة عندما رفضت الأرض أن تعطينا المزيد , فكان السبيل الوحيد المتاح للإستمرار هو التهام بعضنا البعض . ولم ينتهى الأمر عند هذا الحد , فبدأ البرد يزحف في بطء معلنا ً نهاية حقبة زمنية مشوهة قد ساد فيها الإنسان , و قرر أن يتغذى على أطرافنا بعدما نفذت كل وسائل التدفئة , فلم تعد هناك أشجار لنقتلعها بعد الآن لتكون وقوداً لنار التدفئة , فهربت الطيور من سمائنا , ولكن الشمس لم تجزع وظلت تشرق كل صباح ...

الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

عندما أراد الملك رفيع الشأن الطيران


ألقى الملك عظيم الشأن جميع علماء عصره في سجن حجري كئيب لأنهم ساهموا بنشر نوع من البلبلة مع كل إكتشاف علمي جديد فحكموا بتهمة زعزعة الإستقرار التى كانت بمثابة تهمة الخيانة العظمى في عصور مضت.

كان الملك رفيع الشأن مغرم بفكرة الطيران لدرجة أفقدته فيها حكمته عندما قرر تغيير وسيلة الإعدام من الموت شنقاً إلى القذف من أعلى الجبل , وأنتهى به المطاف بأنه تأكد تماماً من عدم إستطاعة بنو البشر على الطيران , وقرر أن يسلك مسالك آخرى .

بعدما نجح الملك بالقضاء على كل الجواسيس الذين هددوا هيبة الدولة , أستجوب الملك رفيع الشأن طائر أبيض اللون ضعيف الجسم بعدما تم سجنه في قفص مظلم تغزوه الرطوبة لإجباره على الإعتراف بسر قدرته على الطيران , فلم يفلح معه الملك و أمر بإلقاءه في قدر مغلى حتى يستسلم ويبدأ بالإفصاح عن سر قد حيره  لسنوات عديدة حتى تساقط شعر رأسه المربعة .

لفظ الطائر الضعيف أنفاسه الأخيرة بعد ما تم إلقاءه في القدر مباشرة ولم يلفظ بأدنى شيئ إلا ببعض الصيحات المتألمة , فجن جنون الملك و أمر بجلب كبير علماء المملكة من السجن المشدد و إجباره على تفسير سر الطيران العجيب .

بالرغم من كونه ميتاً أكثر من كونه حياً , أستجمع كبير علماء المملكة قواه ليقف صلباً في وجه ذلك الملك المتغطرس عندما أمره الملك بتفسير تلك الظاهرة العجيبة , فأستطرد كبير العلماء قائلاً: " أن الأمر بغاية البساطة  كى تتمكن من الطيران فعليك أن تؤمن بأن الله قد خلق لك أجنحةً بدلاً من الأذرع ".

 فأقبل الملك متسائلاً :" وكيف أؤمن بأني أمتلك أجنحة ؟"

 فأقبل كبير العلماء على فتح نافذة من نوافذ القاعة و أكمل : "كل ما عليك هو الوقوف بالقرب من النافذة والتأمل إلى السماء عنئذ ستحلق بلا قيود".

 شكك الملك من صحة تفسير كبير العلماء ولكنه قرر أخيراً بأن يحاول , وعندما وقف تجاه النافذة و نظر للسماء , باغته كبير العلماء بسرقة خنرجه الذهبى وقطع به عنق الملك الذي نما له جناحين أسودين وطار يتفقد السماء البعيدة .


الأحد، 6 مايو 2012

القطيع


كان القطيع المكون من آلاف الخراف يعيش في سلام في أسفل الوادي , فكان يتغذي على الكلأ و المرعى , وكان قائد القطيع ذو الفرو الكثيف الذي غطى أيضاً معظم وجهه شبيهاً بشيخ ملتحى . بالرغم من أنه لم يكن أكبرهم سناً, ولم يكن أيضاً  أفصحهم قولاً ولا أكثرهم حكمة , ولكن خدمه إيمان معظم القطيع بتلك الأسطورة القديمة التى أوجبت عليهم إتخاذ الشاه الأوفر فرواً قائداً لهم , فأتبعوه بلا تفكير .

وذات صباح كان قائد القطيع يتجول وحيداً في زهو , فقد كان معجباً بنفسه أشد العجب فهو القائد لآلاف الخراف الذي نصبته في مكانة شبيهه بمكانة الآلهة , و بيمنا هو تائه في سحابة من الأفكار السعيدة , فوجئ بذئب يرتجف , فأصيب بخوف مفاجئ يشبه الصاعقة , و أصيب أيضاً بالدهشة لرؤية ذلك الذئب يرتجف أمامه في خوف . ولكنه أستجمع قواه و خاطب الذئب " هل أنت على ما يرام ؟ " .

كان ذئباً ضخماً ذو جسد قوى مفتول العضلات , فأجابه الذئب: " نعم يا مولاي ... ولكني لم أقصد أن أتجول في مملكتك ... إني فقط عابر سبيل " .
تلاشت نوبة الفزع لدى قائد القطيع عند سماعه لتلك الكلمات , و أستطرد في زهو : " لا بأس ... كيف يمكن لقائد القطيع أن يقدم خدماته للذئب المسكين ؟ "
فأقبل الذئب قائلاً : " أريد العفو يا مولاي " . و باغته متعجباً : " هل أنت قائد ذلك القطيع المهول الذي يتجول طليقاً في الأراضي الشاسعة القابعة وراء الوادي ؟ "
لم يتمكن قائد القطيع من الإجابة على الفور , لأنه لم يكن يعلم بوجود قطيع آخر وراء ذلك الوادي ... فلم يغادر ذلك الوادي قط منذ ولادته مثل معظم القطيع , ولم يكن يعلم ما وراء تلك الجبال ... و لكن أستطرد في ثقة : " بالفعل  ... أصبت " .

وأستأذن الذئب من قائد القطيع بالرحيل , و بعدها غرق قائد القطيع في دوامة من الأحلام أنتهت بأتخاذه ذلك القرار بالذهاب إلى تلك الأراضي الشاسعة وراء الوادي , فقد أراد أن يكتسب المزيد من التابعيين , فقد كان على يقين بأنهم سيتخذونه قائداً كما أتخذه ذلك القطيع البائس ... ومن ثم توسيع دائرة ملكه .

أمر قائد القطيع  جميع الخراف بإعداد العدة للرحيل من ذلك المكان  و الذهاب إلى الأراضي الخضراء الشاسعة وراء ذلك الوادي , فأنتابت موجة من الحماس معظم أفراد القطيع  وهموا بإعداد العدة , ولكنه فوجئ بتلك الشاه النحيفة تعترض على ذلك القرار , فأقبلت قائلة  : " أيها القوم ... أن العشب يقل تدريجياً في الإتجاه الذي تنوون الإنطلاق فيه , حتى يختفي كلياً حيث الصحراء القاحلة ... ولماذا أيضاً الرحيل عن ذلك الوادي ذو العشب الوفير في المقام الأول ...  !!! ؟ " .

أهتزت ثقة قائد القطيع بعد سماع تلك الكلمات , ولكنها سرعان ما عادت بعد أن قام معظم القطيع بإتهام تلك الشاه النحيفة بقصر النظر , والبله , والجهل و الكفر و الهرطقة , وأقبلوا مسرعين ليلحقوا بقائدهم الذي شرع في الرحيل , ولم يبقى في الوادي إلا تلك الشاه و قلة قليلة آخرى , وأصبحت تلك الفئة القليلة عرضة لأي هجوم نظراً لعددهم الواهن .

أستمرت رحلة القطيع لأيام دون أن يصلوا إلى الأراضي الخضراء الشاسعة , فلقى عدد كبير منهم حتفه من الإعياء, و كلما تقدموا قل العشب الأخضر تدريجياً حتى أنعدم تماماً , وبالرغم من كل تلك الوقائع , لم يملك أحداً من القطيع الجرأة الكافية للتفكير في عواقب الأمور , فلم يجرؤ أحداً للنظر إلى السماء  , وأكتفت كل شاه بإتباع من يليها ثم من يليها وصولاً إلى قائد القطيع في الأمام , التى كانت أحلام العثور على تلك الأراضي تراوده بشدة , حتى فاجأه ذلك الذئب الذي رأه منذ أيام , فأصاب الذعر معظم القطيع , ولكنهم ثبتوا عندما أقبل قائدهم مسرعاً إلى الذئب يناديه في ثقة مصحوبة بالغضب  : " أيها الذئب ... ماذا تفعل في تلك الأراضي ؟ " ... فأقبل الذئب مسرعاُ : " عفواً أيها القائد ... لقد كنت في مهمة من قبل جماعتي " .
فأستطرد قائد القطيع قائلاً : " مهمة  ... أية مهمة ؟ " .
فأجاب الذئب : " أني وريث عرش مملكة الذئاب ,  وحتى أنال العرش , أرسلتني جماعتى في أختبار".
فأجاب قائد القطيع هازئاً : " أي أختبار ... هل تنوي مصارعة الأسود , أم القبض على فيل حي و إرساله إلى جماعتك  " .
أبتسم الذئب في خبث : " في مملكة الذئاب المظهر والقوة الجسدية ليست مقياس القيادة ... ولكني  نجحت في الإختبار بالفعل " .
أستطرد قائد القطيع قائلاً : " أطيب التهاني ... عليك الآن الغروب عن وجهى لأني في عجلة من أمري ... ولكن أنتظر , أنك لم تخبرني بالإختبار بعد أيها الملتوي " .
أبتسم الذئب : " لقد كان الإختبار يكمن في إطعام مملكة الذئاب بالكامل , وهم اللآن بصدد الحصول على طعام يكفيهم لأسابيع قادمة  ... مرحباً بك في مملكة الذئاب" .



الأحد، 26 فبراير 2012

الرجل الأبيض المتوسط


بدأ الرجل الأبيض المتوسط يتذكر وميض ذكرى شبه ممحية لأشباح كان معهم منذ دقائق عندما أستيقظ مفزوعاً على صوت المنبه الشبيه بنحيب طائر يحتضر, فأصطدمت عيناه بنور الصباح كمن يصطدم بشاحنة عملاقة عند عبور الطريق , وعندها تفوه فمه بالكلمات المعتادة " اللعنة ... لقد مازلت على قيد الحياة".

كان النوم هو الهواية المفضلة للرجل الأبيض المتوسط , فقد كان ينتمى إلى "عالم الأحلام" , حيث أختلفت قوانين هذا العالم إختلافاً كلياً عن العالم الواقعي , ففي هذا العالم فقط تستطيع مجالسة الموتى مرةً آخرى على الرغم من إختفائهم من حياتك منذ سنوات , وفي هذا العالم تختلف قوانين الزمن و الإنتقال و الجاذبية , والأهم في هذا العالم أن الشخص الذي تحب والشخص الذي يبادلك الحب هما الشخص ذاته .

لم يكن الرجل الأبيض المتوسط يحتك بالعالم الخارجي إلا في أقل المناسبات , ونشأ هذا القرار نتيجة الصدمات المتتالية التى تلقاها على عاتقه والتى حولته من شخص مثال للتفاؤل إلى هارب من الواقع , فكان يمضى أيامه يعمل من التاسعة صباحاً حتى السادسة مساءاً ... يذهب بعدها للمنزل ليتناول وجبة يومه الوحيدة يحتسي معها كوب من الشاى ... بعدها يهيأ نفسه للذهاب إلى الفراش والهروب من عالم اليقظة شديد السوء , فعقله المحمل بالذكريات السعيدة غير مؤهل بعد لإستيعاب الواقع المزرى بأن الأشياء لم تعد على ما يرام و أنه فقد الكثير في خلال السنوات القليلة الماضية .

وفي يوم من الأيام أراد الرجل الأبيض المتوسط  أن يواجه الواقع , فقد رغب بتغير العالم من أجل حياة أفضل ...فقرر الخروج إلى العالم الخارجي حيث توجد سيارات فارهة و أبنية كئيبة و شوارع مهملة وبشر يحتضرون وكائنات منتظرة موسم التزاوج , فتجول طليقاً يبحث عن الأجوبة , ولكنه توقف عندما اصطدم بلافتة ضخمة مغطاة بالصدأ وملطخة بخط غير متناسق حفرت به تلك الكلمات " مرحباً بك في عالم الأموات ".

كانت الصدمة قوية لدرجة أفقدته فيها الوعى , ولكنه أستيقظ في ألم على نداء إستغاثة خفي قادم من عالم لم يعهده من قبل , يتحسس المكان ليتعرف على البيئة المحيطة فأندهش بأن الأشياء الملموسة لم تعد بعد ذلك , وقررت الأوهام أن تندمج مع الحقيقية فتحول الاثنان إلى خليط مزعج أربك عقله , ومضات لأشباح من الماضي و أماكن مألوفة لكنه لا يتذكر أنه مر بها يوماً ... يرى مرآة مغطاة بالغبار يتوسطها صورة شبح غير واضحة المعالم ... ينزعج مرة آخرى لسبب آخر غير معلوم يشعره بالتعاسة , فقد كانت غريزته الأولى تقول بأنه في الجحيم, أما غريزته الثانية فتؤكد أن الشيطان يراقبه عن كثب, أما غريزته الثالثة فنبأته بأنه قد سقط إلى الهاوية ...

شبح لرجل عجوز ذو ملامح مشوهة يوجه إليه الحديث من خلال المرآة المحطمة القابعة أمامه :
-         لما لا تجيب عن الإتهامات الموجهة إليك أيها الأحمق ... هل أنت مصاب بالصمم ..؟ !
-        أجاب الرجل الأبيض المتوسط مرتجفاً " اي أتهامات !! ؟؟؟
-         هل تعلم أنه سوف ينال منك كما نال من غيرك ؟
-         يتعجب الرجل الأبيض المتوسط ... "عن من تتحدث أيها العجوز؟"
-         عن الفأر الذي ينقر خيوط عمرك .
-         ويكمل العجوز .."هل تعلم أننا سنحكم عليك بالجريمة الكبرى...سنحكم عليك بتهمة إهدار الوقت "
يضع الرجل الأبيض المتوسط يديه  فوق رأسه بشكل غريب
-     ويتسائل  العجوز في مرح " هل أنت على ما يرام أيها الأبله ؟"
-         يجاهد الرجل الأبيض المتوسط كى يبحث عن إجابة مناسبة و يقول فى حسرة "أحاول أن أمنع الأفكار من التسرب من ذاكرتي المثقوبة ... اللعنة , ما كان على أن أخرج إلى العالم الخارجي أبداً... "تغيير العالم من أجل حياة أفضل " لماذا أقتنعت بهذا الهراء...! ؟

-         كان العجوز يضحك بلا توقف و لكنه أسطرد قائلا " لاداعي للحسرة ... سنعفو عنك لحسن نواياك , وستخرج من ذلك المكان المزري , ولكن عليك أن تدرك الأمر... كى تغير العالم عليك أن تبدأ بالشخص الذي تراه في المرآة كل صباح "...