الخميس، 17 نوفمبر 2011

تحت تأثير المخدر


وقبل نهاية العالم بعدة سنوات بعد أن أستنزفت طاقات الأرض تماما وعاد الإنسان إلى ما كان عليه أيام العصور المظلمة , وبالرغم كل هذا التغيير الرهيب الذى طرأ على الكون أجمع لم يتغير نظام الحكم في البلاد التى ظل يحكمها العسكريين لقرون متلاحقة بالرغم من وعود زائفة لتسليم القيادة لسلطة مدنية , ولقد أعتاد العسكر على نصف الثورات التى كانت تحدث بين الفينة والفينة فلم تلبث أن تقوم شرارة ثورة حتى يتم قمعها أو التدخل السريع لتفريق فئات الشعب التى تنسى مطالبها الرئيسية في الأخير وتتفرغ لمحاربة بعضها البعض ومن ثم تتلاشى الثورة فى أيام .


 وفى هذا الزمن بالرغم من رجوع البشرية إلى العصور الوسطى حيث أختفت الأسلحة الحديثة و ظهر القتال بالسيوف والمجانيق مرة آخرى ... أستطاع المجلس العسكري الذي يحكم البلاد منذ الأزل أن يخترع سلاحاً فتاكاً عندما نشبت شرارة آخرى لبداية ثورة فتجمع الشعب عند أنقاض ميدان تحرسه أسود حجرية متهالكة بفعل الزمن , وفي هذه المرة صمد الشعب الثائر فى هذا الميدان بشكل غريب غير مسبوق مما دفع العسكر إلى إستخدام ذلك السلاح الذى إن وجد منذ القدم لغير خريطة الأرض , فأستخدم العسكر هذا السلاح ليكون ذخيرة تقذفها المجانيق العملاقة على الأهداف البعيدة , فكان عبارة عن كرة ضخمة من نبات البانجو المخدر مع خلطة سرية من نباتات مهلوسة آخرى , وألقى العسكر على المتظاهرين مئات من تلك الكرات المخدرة بعد أشعالها , ومع القذيفة الأولى بدأ الشعب يشعر بالنشوة , و توالت القذائف الواحدة بعد الآخرى حتى بعث المجلس العسكرى بإحدى مفاوضيه ليتفاوض مع قادة الثورة  التى سيطرت عليهم المادة المخدرة و جعلت بينهم وبين الزمن حاجزاً ,فأتفق الطرفان على أن الحل الأمثل في تلك الفترة الحساسة في تاريخ البلاد هى ترك عصا القيادة للمجلس العسكرى الذي يملك من الحكمة الشيئ الكثير , وقام الشعب وهو في نشوة المخدر بإحتفال ضخم بمناسبة تسليم السلطة لأهلها الأصليين , ورجع الجميع إلى منازلهم سعداء  , وبمناسبة ذلك الحدث الجلل قرر القائد الاعلى للعسكر بإقامة ذلك الكرنفال كل سنة في ذلك اليوم , وعندها فقط أيقن الشعب أنه قد فعل الصواب . 


الخميس، 3 نوفمبر 2011

الأصبع المفقود


في الذكري الخمسين لثورة لم تكتمل أبداً كانت البلاد تحتفل رسمياً بوهم نصر خادع لم يتحقق , وسمي ذلك اليوم  بيوم الشعب , و أمر الحاكم العسكري الشبيه بكائن منقرض الذي يحكم البلاد منذ فترة ضبابية لم يستطع أحد بذاكرة مثقوبة أن يتذكرها نظراً لطول المدة أن يقام تمثال عملاق على شكل يد لذراع قوية سمي "القبضة" , فكان صرح ضخم مصنوع من معدن كئيب يصور قبضة مشوهة غير مكتملة لذراع حديدية , وكانت تلك القبضة الحديدة المشوهة ينقصها الأصبع الأوسط .


 وأختلف العامة من الشعب على تفسير رمز هذا العمل الفني الجبار , فمنهم من فسر أن اليد هي يد الشعب المكافح الذي أستطاع الصمود ضد الزمن الراكد , ومنهم من فسر القبضة على أنها رمز للتعاون بين الشعب الذي في حقيقة الأمر لم يتعاون إلا على الفرقة ,  ومنهم من فسره أنه رمز للعمل الجاد الذي لم يتحقق أبداً ... ولكن التفسير الأوقع الذي لم يجرؤ أحد على تخيله كى لا يحاكم عسكرياً , أن تلك القبضة الحديدة كانت تمثل الحكم القاسي لعسكريين محنطين لشعب بائس الذي لم ينل شيئاً منذ أن تولى هؤلاء سلطة إنتقالية دامت لعقود ...  سوى ذلك الأصبع المفقود .


الخميس، 27 أكتوبر 2011

الموت ببراز الطيور


أنه عصر التقدم العلمي لا شك , فبعد ان أستطاع ذلك المجلس المكون من عسكريين محصنين ضد الموت من الحكم لسنين طويلة منذ أن تولوا إدارة البلاد بعد نصف ثورة قام بها شباب واعد من شعب يائس , نجح العسكريين في الأخير في ترويض الطبيعة والتغلب على قوانينها العنيدة.

في البداية الأمر , بعد أن أنطلقت شرارة النصف ثورة أستطاع بعض الشباب أن يعلنوا التحدي ضد تيار شعبي عارم من الجهل و أقنعوا القوم بأن الموت في سبيل الحرية أثمن من حياة في قطيع الخراف ذاك , ولكن الشعب الجائع الذي يعشق الإستقرار قد شرع إلى الفرار فلم يستطع التكيف مع الوضع الجديد الذي أصبح شديد التعقيد , فقد تطلب الأمر إلى بذل الكثير من الجهد و الكثير من التضحيات , فسخط هؤلاء القوم على ما تم إنجازه حتى ذلك الحين, وتمنوا الرجوع إلى العصر البائد و العيش في مستنقعات القذارة كالعبيد ... حيث الإستقرار قابع بمذاقه الفريد .

ومرت السنين , ولم يكن ذلك المجلس بغريب عن رغبات ذلك الشعب المسكين فقد علم أن الخطوة الأولى للسيطرة على قطيع الخراف من جديد هي توفير الطعام لهم بصورة مستمرة وحل مشكلة الغذاء , ومن ثم أخذت المختبرات العسكرية التى تنتنج أخطر أنواع الأسلحة المدمرة على إنتاج جيل جديد من الطيورالتى تم تهجينها حتى أصبحت بحجم مبنى عملاق , فكانت الدجاجة الواحدة تكفي لإطعام مئات الأشخاص, و أستطاع المجلس حل مشكلة الجوع ...و أصبح هؤلاء العسكريين ...  أبطال خالدين ... كأسطورة التنين .

فرح الشعب بالنتائج المبهرة , وشكروا الخالق على نعمة العقل الذي منعهم من الإنصياع لخرافات شباب بائس يسعى وراء المجد , ولكن لم يدم الإستقرار طويلاً , فعلى العكس إزدادت معدلات الوفاة في قطيع الشعب الهائج ولم يكن ذلك بفعل وباء غامض أو مرض لعين أو طبيعة ساخطة أو حتى حرب غشماء ...فعندما حلقت الكائنات المهجنة العملاقة في السماء , بدت كانها غربان قاتمة قادمة من القبور... وأخذ نوع جديد من الموت بالظهور ...سُمى الموت ببراز الطيور .



الاثنين، 24 أكتوبر 2011

الخازوق


وخلال رحلته الطويلة التى قطعها بدءاً بالوديان المنبسطة القابعة تحت سلسلة جبال شاقهة ومروراً بالجبال نفسها حتى أستطاع التسلق إلى القمة , لم يتوقف لحظة عن تخيل نظرة الناس له عندما يشاهدونه من أعلى  قمة الجبل خصوصاً لكونه شخص متوسط الذكاء متوسط القوة متوسط الطول متوسط الدخل فلم يكن يملك شيئاً مميزاً في الواقع , فقد كان في أشد الحاجة لنظرة الإعجاب تلك التى لم ينالها أبداً. أما قريته الصغيرة التى تقبع أسفل الوادي السحيق والتى عاش فيها طوال حياته فقد تناقلت فيها الكثيرمن الحكايات والأقاويل والأساطيرعن هذا الجبل الشامخ المهول وخصوصاً أن أحداً لم يتمكن من بلوغ قمته حتى الآن , فمنهم من كان يحلم بالأمر ولم يقدم على تسلقه قط , ومنهم من تسلقه فعلاً ولم يتمكن قط من بلوغ قمته , ومنهم من مات وهو يحاول و أنتهى به المطاف كجثة ممزقة في الأسفل .
وعندما قرر أن يبدأ تلك الرحلة التى أخطأ في تسميتها كثيراً ففي البداية أختلط عليه الأمر وسماها رحلة البحث عن الذات و سماها فيما بعد رحلة البحث عن النجاح ولكن في الواقع كانت كلها مسميات خاطة لأنها كانت بالنسبة له رحلة البحث عن الشهرة في الأخير.

أستطاع أخيراً بلوغ قمة الجبل  بصعوبة بالغة نظراً للإرتفاع الشاهق وقلة الأكسوجين ناهيك عن حالة الإنهاك التام التى ألمت به منذ شهور طويلة منذ أن قرر صعود تلك الضخور المدببة , أستطاع أخيراً مشاهدة المشهد كاملاً , وكان منظر الوادي بديعاً , فقد كشف تفاصيل دقيقة لم يكن ليراها من أسفل , و أخذ يفكر بإنجازه العظيم الذي حققه أخيراً بعدما كان مجرد فكرة عابرة , ولم يتوقف عن تخيل نظرة الناس له بعدما أستطاع الوصول إلى القمة , وتملكه أحساس فريد بالزهو والإعجاب , ولكنه كان مصحوب ببعض القلق لأن أحداً من الناس لم يتمكن من مشاهدته على القمة بالرغم من التلويح لهم مراراً فلم يكن لأحد أن يراه بسبب الإرتفاع الشاهق , فأدرك أن كل هذا المجهود المضنى سيذهب سدى ... فنظر نظرة طويلة في الأفق الواسع  وأدرك أن عملية النزول ستكون أصعب من الصعود و أنها ستحتاج إلى مجهود أكبر بكثير, ومر بمخيلته ذكرى هؤلاء الذين ذهبوا في هذه الرحلة ولم يتمكنوا من الرجوع أبداً , وعندها أدرك السبب وهنا فقط قد تمكنت خيبة الأمل من إصابته في مقتل فأجبرته أن يتوقف عن التلويح بيديه للبشر في الأسفل كالمعتوه ... وقرر أن يجلس ليفكر في مستجدات الأمور فأمعن النظر في الأسفل مرة آخرى و تأمل الجبل الشامخ في تمعن وهنا فقط أدرك أنه كان يجلس فوق مقدمة خازوق عملاق .


الثلاثاء، 11 أكتوبر 2011

بطل من ورق


أستسلم البطل المصنوع من ورق لمخالب الرياح العاتية , فأجبرته على أن يمضى قدماً نحو الأرض المقفرة مطأطئ الرأس حتى وجد نفسه تحت سماء لامعة لا قمر فيها .
رفع رأسه ليرى تلك النجوم الساهرة وتمنى أن ينتقل بعيداً عن هذه الأرض عندما توالت عليه نكبات الزمن , فالمعركة الوحيدة التى يتذكر أنتصاره فيها هي معركته مع شبح أبتسامة .

لم يبتسم البطل المصنوع من ورق لسنوات طويلة بعد فقدانه الكثيرمن ضروس فمه الشبيه بكهف حجري مظلم بعدما تلقى ضربات موجعة من أحد الأعداء الغابرين الذين قابلهم كثيراً في طريق نجاح خادع ممهد بالأشواك , قرر ألا يبتسم ثانيةً حتى تنمو له ضروس آخرى , فحرم نفسه من نعمة الأبتسامة لمجرد أن يتجنب تقريعات البشر على مظهر فمه التى بات أقرب إلى نوافذ محطمة لبيت خشبي عتيق , فقد أراد الحفاظ على مظهره الأنيق كبطل شعبي و لم تكن الأسنان المفقودة تخدم مطلبه ذاك , وأستمر هذا الحال لسنوات عديدة ولكن دون جدوى , فلم تنمو تلك الأسنان أبداً وظل الفراغ كما هو .

 جاء ذلك اليوم الذى قرر فيه أن يملأ هذا الفراغ  بكمية من الطمى الكئيب ذو اللون الكاحل الذي يملأ النهر ذو المياه الشفافة , التى تناقلت عنها أساطير كثيرة لقدرتها على الشفاء من الامراض التى أستعصت على الزمن, وعندما أقترب من حافة النهر , رأى قطع نقود ذهبية منتشرة في القاع تلمع كالمرايا تحت أشعة شمس منكسرة بسبب الغيوم , و أبتسم أخيراً أبتسامة عريضة أظهرت أضراسه المفقودة , فقد أدرك أنه قد آن الأوان أن يتغير حظه السيئ الذي لازمه منذ الأزل .

نسى تماماً أمر ذلك الطمى السحرى , فقد كانت صورة تلك العملات الذهبية تملأ مخيلته بالكامل , وأخذ يجمع القطعة تلو الأخرى , ويملأ جيوبه, وفكر بما سيفعله بهذا الكنز المهول فقد خطط مبدأياً أن يستغل تلك الثروة للقضاء على أعداءه , وفيما هو يسرح بخياله كحصان غير مروض في غابة مهملة أدرك أن المال سينصره في معاركه الكثيرة إلا واحدة فتحطمت أمواج الأمل الذى بعثه هذا الكنز تحت صخور الواقع المددبة عندما أحس أنه سوف يدخل معركة خاسرة مع شبح الشيخوخة والتى ستؤدى أخيراً بحياته , فوجد الحزن سبيلاً إلى قلبه مرة آخرى و شعر بالتعاسة , ولم ينتبه إلى موقع قدماه التى سقطت في المياه العميقة ... وعندها فقط تذكر أنه لا يستطيع السباحة .

التالي ...


الاثنين، 3 أكتوبر 2011

تأثير الفراشة



 كان ينظر إلى الكون بمنظور طائر مجروح مفقوع العين, مستلقياً تحت ظل شجرة التوت العملاقة التى أينعت ثمارها الوافرة تحت شمس الكون الباهتة , لا يملك القدرة على مشاركة أقرانه من الصبية في اللعب تحت أشعة الشمس الذهبية الساطعة وكانت متعته الوحيدة هى مشاهدته لتلك الألعاب بالرغم من عدم مشاركته فيها , و كانت أمنيته الوحيدة هى حصوله على جسم قوى ذو سواعد مفتولة يؤهله للعب مع أقرانه في المستقبل القريب لأن جسده  الهزيل الحالى لا يملك القدرة على بذل أى مجهود سوى التنقل من مكان لآخر في حسرة .

لم تكن أمه لتسمح بأن يشارك أبنها النحيف فى أى نوع من الأعمال أو حتى الألعاب المختلفة التى يلعبها الأطفال في سنه نظراً لضعف جسده البالى , وكانت الأيام تمر تباعاً وتكرر نفسها كأنها تسبح في حلقة دائرية مفرغة كعقارب ساعة صدأة , وظلت أمنية الصبى كما هى ... لقد أراد الحصول على جسم قوى كالفهد , وتنامى في داخله ذالك الشعور المريب الذي حدثه بأن تلك الأمنية ستتحقق يوماً ما  .

وذات يوم أقبل الصبية عليه مسرعين يطلبون منه تسلق شجرة التوت الضخمة و أن يأتيهم ببعض الثمار الطازجة , رفض في بداية الأمر لأنه كان على يقين أن جسده سيخزله في تلك الواقعة كما خذله في وقائع أخرى كثيرة , ولكن إلحاح بقية الصبية جعله يعدل عن رأيه , فقد أقنعوه بأنه الوحيد المؤهل لتسلق تلك الشجرة ضعيفة الأغصان نظراً لصغر حجمه و خفة وزنه .

تسلق الصبي الجزع تلو الآخر و كان هدفه الحصول على الثمار اليانعة التى توجد فى الأعلى , و عندما مد يديه ليقطف واحدة , أختلت الأرض من تحت قدميه وسقط كالصخرة .
أدت تلك السقطة أن أفقدت الصبي القدرة على المشي بدون عنصر مساعدة , وقد أضطر إلى إستخدام عكازين يتكأ عليهما كلما أنطلق من مكان لآخر .

و مرت الأيام , وعاد مرة آخرى ليستلقى بصعوبة تحت ظل شجرة التوت العابسة بمساعدة العكاز الخشبي الكئيب الذي لم يعلم لماذا تشقق هل بفعل الزمن أم بفعل حزنه على حاله المزري , وخلال تأمله للكون بعيون مليئة بالدموع, أبصر تلك المخلوقات رائعة الجمال تطوف من حوله , وعندها أدرك أن طيلة الفترة الماضية كان يرى العالم من قفاه .

في البداية كانت مجرد كائنات دقيقة تزحف بين أوراق الأشجار الكثيفة , أمعن النظر مرة آخرى إلى تلك الديدان السوداء ولم ير فيها شيئاً مميزاً , وراقبها يومياً و لاحظ أيضاً تحولها مع مرور الوقت , فأصبحت أكثر قوة و أضخم وزناً , حتى أصبحت يرقة في يومِ ما .
 وجاء ذلك اليوم الذي لن ينساه طيلة حياته , فقد رأى تلك اليرقة تتحول إلى مخلوق رائع بديع الألوان وقد نما لها جناحين ترفف بهما في الهواء وتحلق بها عالياً …لقد تحولت إلى فراشة .

ومنذ ذلك الحين أصبح الصبي أشد تمسكاً بحلمه فمازال حلم الأمس يراوده بشدة بالرغم من صعوبة تحقيقه بسبب تلك العكاكيز المتهالكة البغيضة غير ذات النفع , والغريب أن تملكه ذلك الإحساس الداخلي الذي منحه السكينة , فقد أيقن أن جسده سيصير أقوى بالرغم من علته تلك فمراقبته للفراشات بديعة المنظر بعدما كانت مجرد حشرة سوداء مقززة قد أضاء في نفسه الأمل مرة آخرى .

ومرت سنون طويلة في حلقة الحياة المفرغة ... وذات يوم أجتمعت القرية لتشاهد ذلك الفتى عريض المناكب مفتول العضلات في المبارة النهائية التى أنتهت بفوزه وبعدما تم تكريمه و أصبح المصارع الأقوى في المدينة , طلب منه الحضور إلقاء كلمة بمناسبة إنجازه العظيم , فأفتتح كلمته بشكر الخالق القدير الذي أستجاب لأمنيته بعيدة المنال والتى تمناها منذ أن كان طفلاً , فقد أراد أن يصبح قوياً ذو سواعد مفتولة ولم تكن لتلك الأمنية أن تتحقق إلا بإستخدام عناصر خارجية , فجسده النحيف الضئيل ما كان ليصبح بمثل تلك القوة إلا بإستخدام العكازين الذى أستعان بهما لسنين طويلة حتى جعلا ساعديه كالصخرة وجعلا منكبيه كالأفق الواسع وقرر تركهما في الأخير لأنه أستعاد قدرته على المشي, وحمد الله على نعمة البصر الذي أدرك من خلاها أن هناك كائنات أقل شأناً كانت قادرة على التحول والتحليق في السماء على الرغم من أنها ولدت حشرة سوداء لزجة تزحف في بطء .  





الخميس، 7 يوليو 2011

الأعرج


نشأ هذا الصبي في أسرة من الأسر المعدمة التى تملك بالكاد قوتها اليومي , فقد شارك جميع أفراد الأسرة في العمل الشاق في المزرعة الصغيرة التى كانت مصدر رزقهم الوحيد .
كان الصبي الأصغر في تلك الأسرة الفقيرة الكادحة التى تكونت من أب وأم وسبعة أبناء. وكان له وجه جميلاً صبوحاً بالرغم من إعاقته تلك , فقد ولد بمرض نادر أصاب جهازهه العصبي , أجبره على أن يمشى منحني الظهر , مقوس الأرجل يجر القدم الأولى وراء الثانية جراً , أما يديه فكانت في حالة إرتعاش دائم , ولم يختلف أسلوبه في الحديث عن أسلوبه في المشي , فكان ينطق بصعوبة بكلام متعلثم غير مفهوم . ونظراً لعلته , لم يشارك الصبي الصغير في تلك الأعمال , فقد كان عاجزاً عن تقديم أى نوع من العون والمساعدة ,فحركته كانت بصعوبة شديدة أما يديه فقدت كانت غير قادرة على حمل شيئاً .

لم يحب الأب هذا الطفل كثيراً , فقد تطلبت رعايته الكثير من الوقت والجهد والمال الذي كان يحصل عليه في مشقة , أما الأم فقد كانت دائمة الخوف والشفقة والألم على مستقبل هذا الصبي , فقد ودت لو لم يولد قط , وأما بقية أخوته فقد أتخذوه أضحوكة , فكانوا دائمى السخرية من علته تلك .

 وذات يوم قرر الأب بالإتفاق مع بقية الأسرة أن يتخلصوا من ذلك الصبي الذى شكل عبئاً ثقيلاً على كاهلهم , ووافقت الأم على هذا القرار فقد كانت تتألم لرؤية ذلك الصبي  يتعذب في تلك الحياة البائسة, فقرر الأب أن يلقى به في وسط الصحراء القاحلة ويترك مصيره للخالق , فأخذه ذات يوم إلى ذلك المكان الموحش النائي , وتركه وحيداً على أمل أن يتخلص منه للأبد .

ترك الصبي وحيداً وسط  تلك الصحراء القاسية , وقد أستنتج أن الأب يقوم بإختباره , فقد كان دائماً يختبر أخوته بتلك الإختبارات الصعبة حتى يميزمنهم القوي من الضعيف. لقد رغب بالعمل مع أسرته من فترة طويلة ولكن لم يكن أحداً يسمح بحدوث مثل هذا الأمر , لكنه لا يعلم لماذا؟ ... هل لسنه الصغيرة ؟... كان يعلم أن يداه لا تقدرعلى رفع الأحمال , وكان يدرك أيضاً انه بطئ بعض الشئ في الإنتقال من مكان إلى آخر ... ولكنه كان يأمل أن تتحسن حالته في المستقبل .

كان الجو شديد الحرارة , وكانت أشعة الشمس حارقة , ولم يكن يدري في أى إتجاه عليه أن يسلك ... لقد بدأ يشعر بالعطش ... لكنه ظل ينقل قدميه في بطء حتى حل الظلام , وإنقلب الجو وأصبح شديد البرودة , وبدأت الأمطار الغزيرة بالهطول , وبدأ الجوع يتسلل إلى معدته الخاوية , وكذلك بدأ الخوف  عندما سمع عواء قطيع  الذئاب القابع أمامه.
استلقى على الرمال الباردة  وهومبلل الثياب واهن القوى يرتجف في خوف من تلك الوحوش المتجولة أمامه, وخامره ذلك المزيج من الخوف والألم واليأس, وكان على وشك البكاء ... فأختلطت دموع عينيه بدموع السماء ... وظل ينتحب طوال الليل .


مرر أسبوع كامل منذ أن تركه أبوه , وكاد أن يلقى حتفه من شدة الجوع والإعياء  ولكن نباتات الصحراء الشائكة أبقته على قيد الحياة , أما البرد فكاد يفتك به في المساء ولكنه أستطاع أن يتوارى كلما وجد كهف من الكهوف المخيفة المظلمة, و أما عن العطش فقد أستطاع أن يروى ظمئه من تلك الحبيبات الصغيرة من المياه التى وجدها على هذه النباتات الشائكة في صباح كل يوم .
كان يتألم في صمت , لقد أنتظرعودة والده كثيراً ولكن دون جدوى ... وكان الأمرالغريب أن الذئاب و الضباع الجائعة لم تهامجه قط بل تركته يمضى أينما ذهب . وفي اليوم الثامن أستطاع رويئة بعض البيوت , فقد أقبلت ملامح المدينة , فأرتسمت على وجه إبتسامة عريضة , ولكنه عجز تماماً عن مواصلة السير , فمنى نفسه  بأن عليه أن يجر قدميه قليلاً حتى يصل إلى منزل والديه.
بلغ أخيراً منزل والديه الخشبي في منتصف المساء ... وطرق الباب عدة طرقات , فقام الأب بفتح الباب , فوجد الغلام الصغير يرتجف ,وهو خائر القوى يقول بصوت متعلثم  واهن "أبي ... لقد نجحت في الإختبار ... هل أستطيع العمل معك في المزرعة  ؟"...وكانت هذه كلامته الأخيرة...